الزوّار

HSN Discount Codes

2010/12/13

ظل الأفعى, ليوسف زيدان

رسالة
يا ابنتى الحبيبة، ما كُلُّ هذه الحيرة التى تعصف بروحك؟ أعرف أنك لم تنامى جيداً ليلة أمس. قلبى حَدَّثنى بذلك، ولذا أرقتُ معك حتى الصباح، ووددت أن أضمَّك لحضنى، وأمسح بيدى على رأسك لأزيل عنها الأوهام .. الأوهامُ، أكثرُ ما كنتِ تعيشين به، وله. ولستِ فى ذلك وحدك، يا ابنتى، فهى صفة فى الإنسان! يجهد روحه، ويكذِّب عقله، حتى إذا أُنْهِكَ .. استسلم للأوهام، ونام. غير أن روحه تعود فترفرف، وعقله لاتكفُّ ومضاته المقلقة لاستنامة الوهم، فيقلق، ويأرق ويغرق فى بحر الحيرة .. مثلما كان حَالُكِ الليلةَ الفائتة.
لن أنصحك بشئ، فلاشئ أثقلُ على النَّفْس الحرَّة، الحرَّى، من تلقِّى النصائح. وإنما سأرجوكِ، أن تسألينى. اسألينى يا ابنتى، لأن السؤال هو الإنسان. الإنسان سؤالٌ لا إجابة. وكل وجودٍ إنسانىٍّ احتشدت فيه الإجابات، فهو وجود ميت! وما الأسئلةُ إلا روحُ الوجود .. بالسؤال بدأت المعرفة، وبه عرف الإنسانُ هويته. فالكائنات غير الإنسانية لاتسأل، بل تقبل كل ما فى حاضرها، وكل ما يحاصرها. الإجابة حاضرٌ يحاصر الكائن، والسؤالُ جناحٌ يحلِّق بالإنسان إلى الأفق الأعلى من كيانه المحسوس. السؤالُ جرأةٌ على الحاضر، وتمرُّدُ المحاصَر على المحاصِر .. فلا تحاصرك يا ابنتى الإجابات، فتذهلك عنك، وتسلب هويتك.
كانت إحدى أستاذاتى الطاعنات فى العمر، تردِّد دوما وبلا ملل: السؤال نصف الإجابة! وأوصتنى مرة، بل مرات، أن أحتفى بالسؤال الجيد, فالأسئلة الجيدة نادرةٌ، ويجدر بنا الاحتفاء بها. كانت تضيف بحكمة امرأةٍ مقدَّسةٍ تجاوزت ثمانين عاما من عمرها، ما معناه أن السؤال مهما كان جيداً، فلن يلغى حقيقةً قاسيةً تقول: من الأسئلة، ماليست له إجابات! وظلت تؤكِّد لنا، قبل موتها بشهور: الإجابةُ مضى وقتها، انتهت أزمنتها، ونحن اليوم فى زمن التساؤل! .. ماتت الأستاذة على مشارف التسعين من عمرها، ويقال إن آخر ما همست به على فراش الموت: كيف يمكن صياغة كل هذه الأسئلة؟
وأنتِ يا ابنتى معذورة فى حيرتك، وفى تردُّدك عن طرح السؤال .. فقد نشأتِ فى بلاد الإجابات، الإجابات المعلَّبة التى اختُزنت منذ مئات السنين، الإجابات الجاهزة لكل شئ، وعن كل شئ. فلا يبقى للناس إلا الإيمان بالإجابة، والكفر بالسؤال. الإجابة عندهم إيمان، والسؤال من عمل الشيطان! .. ثم تسود من بعد ذلك الأوهامُ، وتسودُّ الأيامُ، وتتبدَّدُ الجرأةُ اللازمة والملازمة لروح السؤال.
لكنكِ الآن يا ابنتى، خرجتِ عن هذا الإطار، وتحطَّمت من حول رأسك هذه الأسوار، وبلغتِ رشدك .. فإن شئتِ فارجعى إلى ما كنتِ عليه، وكونى ما أراده جَدُّك وما يريده زوجك وما يريحكِ على فراش أوهام الناس. أو كونى أنتِ، فاسألى .. اسألى نفسك، واسألينى، واسألى الوجود الزاخر من حولك، عن كل ما كان، وعما هو كائن، وعما سيكون. عساكِ بذلك أن تعرفى، كيف كان ما كان، ولِمَ صار العالـمُ إلى ماهو عليه الآن .. تعرفين، فتسألين. ثم تسألين، فتعرفين .. فتكونين أنتِ، لا هُم!
رسالة
مالكِ يا ابنتى؟ قلبى يحدثنى بأنكِ مضطربة، وبأنك أرقتِ الليلة الفائتة. لاتستسلمى يا حبيبتى لأحزانك، فلا شئ يهدُّ الأركان، مثلما يفعل طغيانُ الأحزان .. وأنت يا حَبَّةَ القلب، مازلتِ بعدُ صغيرةً على الحزن. فاطرحيه خلفك، وفوِّتى منه ما استطعتِ. وقد نلتُ أنا منه، نصيبنا نحن الإثنتين، وزيادة. والأحزان يا ابنتى لاتنتهى، فتعالى نضمُّها لنحتويها، فلا تحتوينا .. تعالى نصفو، فنحلِّق فى أفق الفرح النبيل. آه، لقد صحوتُ اليوم من نومى، فرحةً؛ فعند الفجر، حلمتُ بك تمرحين كطفلة فى مروجٍ مزهرة، كانت ابتسامتك تملأ الكون .. اشتقتُ كثيراً لابتسامتك، ولصفاء عينيك الواسعتين.

هناك 5 تعليقات:

  1. روايات يوسف زيدان رائعة جداً،، قرأت له عزازيل ، وسأقرأ له هذه الرواية.

    مدونتك ياهديل رائعة، ومليئة بالكتب، والأفكار التي تستحق القراءة

    ردحذف
  2. فعلا .. رواياته رائعة
    ومع اعجابي بهذه الرواية لكنها لا تقارن بعزازيل
    شكرا , اسعدني وجودك

    ردحذف
  3. اخيراياحلوة قرأتي ليوسف زيدان ..
    عقبال عزازيل لو كنتي ماقرأتيها ..

    ردحذف
  4. الا قرأتها برمضان , بعد ماشفت مدونتك عنها بفترة
    يا الله, فعلا كانت من اروع ما قرأت بحياتي
    ومن يومها وانا انصح كل الناس بقرائتها
    وانشاالله بنزّل مدونة عنها قريب
    شكرا انك دليتيني عليها

    ردحذف