الزوّار

HSN Discount Codes

2010/08/07

والله ما أعدموا سوانا !

حتما أحتاج إلى وقت كي أستوعب ذلك المشهد.
مشاعري مختلطة تجاه ذلك الرجل الذي اعتلى منصّة الإعدام صباح عيد كإنسان أعزل, لا يملك سوى الشهادة لمواجهة الموت, وقد كان هو الموت.
رجل أصبح نحن جميعا. ولذا اختار أن يغادر كبيرا, ليحفظ ماء وجهنا أمام وقاحة الكاميرات .. وشماتة القتلة.
في لحظته الأخيرة, حقّق "إنجازه الأجمل". ذلك الحلم الذي أودى به. فقد أصبح رئيسا لكلّ العالم العربي حين سال دمه ليغطّي المساجد والساحات .. والبيوت العربيّة صباح عيد الأضحى.
كنّا نريد له محاكمة تليق بجرائمه, وأرادوا له محاكمة تليق بجرائمهم. فانحزنا إليه عندما أدركنا أنّهم كانوا يضعون حبل المشنقة في الواقع حول عنقنا. أمّا هو فقد سبق أن قتلوه يوم أطاحوا به, وسحلوا تماثيله في شوارع بغداد, وما كانوا هناك إلاّ لتمثيل مشهد الإعدام المعنويّ له, كي نعتبر من ميتته.
لذا سعدنا عندما كان كما تمنّيناه أن يكون. رفض أن يلبس قناع الشنق. تركهم يواجهونه مقنّعين. قذفوه بالشتائم. فردّ عليهم بالشهادة. العدالة لا تحضر إلى المحكمة مقنّعة, ولا تحتاج إلى هتافات الشماتة. كان كما توقّعناه, حين رفض تناول الحبوب المهدّئة, ووقف في كلّ قيافته, أنيقا في طلّته الأخيرة داخل معطفه الكاشميريّ الداكن.
لعلّه يعرف, من زمن طغيانه, أنّ الضحيّة دوما أكثر أناقة من جلاّدها. سلاحها دمها. لذا لا قاتل يخرج نظيفا من جريمة. شيء ما يعلق بيده, بثوبه, بحذائه, بذاكرته, يعلق حتى بقلمه الذي يصادق به على قتل إنسان آخر وهو جالس في مكتبه. كذلك القلم الذي احتفظ به المالكي ليوم جليل كهذا. وناضل كي يسيل حبره بذلك التوقيت, كي يهدينا رأس صدّام عيديّة .. والمسلمون وقوف في عرفات.
قيل إنّ الرجل كرّس كثيرا من وقته لهذه المهمّة, على حساب واجبات عائليّة, حتى إنّه وصل متأخّرا لزفاف ابنه, الذي أبى إلاّ أن يفرح به في اليوم نفسه.
ما كان موت صدّام عيدا. كان بالنسبة له زحمة أعياد. أو كما تقول أمّي: "نافسة, ومطهّر .. وليلة عيد".
كلّ هذه المباهج, احتفالا بشنق رجل حتى الموت, في زمن الديموقراطيّة الأميركيّة, وحقوق الإنسان المباركة.
البعض لم يجد في هتافات الجلاّدين, ورقص بعض الحاضرين حول جثّة المشنوق, ما يستدعي الاعتذار. السيّد موفّق الربيعيّ مستشار "الأمن" "الوطني", الذي أبدى اعتزازه الكبير بحضور الحدث, أجاب شبكة "سي. إن. إن." عن همجيّة ما حدث, "إنّ من تقاليد العراقيّين رقصهم حول الجثّة تعبيرا عن مشاعرهم .. فأين المشكلة؟".
لا مشكلة, عدا أنّ جوابه جرّدنا من حقّنا في مساءلة أميركا بعد الآن لماذا ليس لموتانا قيمة موتاها وهيبتهم. مادام بعضنا على هذا القدر من الاحتقار للحياة الإنسانيّة, علينا ألاّ نتوقّع من العالم احتراما لإنسانيّتنا. ولا لوم إذن إن هو أهان كرامتنا, وأفتى بحجرنا في ضواحي التاريخ .. وحظيرة الحيوانات المسعورة. فمن مذلّة الحمار صنع الحصان مجده.
مات صدّام إذن شنقا حتى الموت. الذين لبسوا حداده, والذين بكوه, والذين فتحوا له مجالس عزاء, والذين حزنوا عليه حدّ الانتحار .. ليسوا هم من استفادوا من سخائه وإغداقاته أيّام العزّ. هؤلاء بلعوا ألسنتهم, ودعوا في سرّهم أن تموت معه أسرارهم. (ليت حكّامنا يعتبرون في حياتهم من وضع كرمهم في غير أهله!)
بكاه البسطاء, والفقراء الذين زاد من فقرهم فقدانهم فارس أحلامهم القوميّة, أحلامهم المجنونة. بكاه من رأوا فيه قامة العروبة, طلّتها, رجولتها, وعنادها .. حتى الموت.
هل في قتله معاقبة له .. أم لنا؟ هل كان أضحيّة العيد أم نحن الأضحية؟ هل علينا أن نعترض على توقيت الإعدام؟ أم على مبدأ الإعدام نفسه؟ هنا يبدأ سؤالنا العربي الأخطر.
صباح العيد أغمضت عينيه حتى لا يراهم يرقصون حول جثّته كالأقزام في حضرة مارد. "إنّ للأسد هيبة في موته ليست للكلب في حياته" يقول ميخائيل نعيمة. فهل تعرف الكلاب ذلك؟
أعترف أنّني بكيت صدّام. بكيته مشنوقا وقد كان شانقا. بكيته إنسانا. بكيته عربيّا. بكيته مسلما. ويوم كان حاكما بكيت منه.
رغم صغر اسمي, وصغر سنّي قلت "لا". لن أدخل العراق إلاّ مع كتّابه المنفيّين .. ولن أقيم في فنادق فاخرة على حساب جياعه.
اليوم, وقد أعدموا صدّام, وشنقوا معه وطنا بأكمله كان قويّا وموحّدا به .. اليوم وقد شنقوه وأهانوه لينالوا من عروبتنا وما بقي من عزّتنا, أشعر أنّ لي قرابة بهذا الرجل, وأنّه لو قدّر لي أن أزور العراق عندما يتحرّر من محتلّيه سأزور قبره. وأعتذر له عن زمن تفشّى فيه داء نقصان مناعة الحياء, لدى بعض حكّامنا, وانخفض فيه منسوب الكرامة, حتى غدا مجرّد الترحّم على رئيس عربيّ أمرا يخيفهم. مادامت أميركا هي التي سلّمته لسيّافه.
من كتاب "قلوبهم معنا وقنابلهم علينا" لأحلام مستغانمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق